شهدت سوريا، الأسبوع الفائت، فصلاً جديداً من الاعتداءات الطائفيّة التي سبقها تجييش وتحريض طائفي بُني بكلّ سهولة على رسالةٍ مفبركة ومجهولة المصدر. بحجّة ملاحقة السلاح المتفلّت وإنصاف الدين، شنّت الفصائل التابعة لوزارتي الدفاع والداخليّة هجوماً على صحنايا وأشرفية صحنايا وجرمانا في ريف دمشق، كانت سمته الأساسيّة الإذلال المتعمّد.
اعتبرت حكومة الرئيس أحمد الشرع نشاط الفصائل الدرزيّة في دفاعها عن نفسها «خارجاً عن القانون»، لكنّ القانون نفسه، أي قانون وزارة الدفاع، هو خارجٌ عن نفسه أيضاً، إذ لا تزال تشكيلات وزارة الدفاع الجديدة عبارة عن فصائل تتحرّك بحسب تشدّدها وهواها. انقضّت هذه الفصائل على المناطق الدرزيّة «نصرةً للنبي محمد»، رغم تحريم المفتي أسامة الرفاعي لكلّ الدم السوري. لم تكترث الفصائل لا للفتوى ولا لصورة الحكومة في الداخل والخارج، كان هدفها فقط تكريس سلطة الإذلال والقتل وتحليل الدم وسفكه. والحكومة نفسها لم تكترث لهذه الهجمات، فبإمكانها أن تتبرّأ من هذه الفصائل وتشدّدها ببياناتٍ فضفاضة وتصريحات مموّهة وفيديوهات كيوت لكرة السلّة.
بعد تشكيل الحكومة السوريّة وتصدير رسائل الوحدة الوطنيّة وإعادة بناء الدولة للخارج، لم يعد بإمكان هذه الحكومة أن تدّعي أنَّها لا تقوى على احتواء الفصائل المتطرّفة ضمن وزارتها. إذ تزامناً مع اشتباكات ريف دمشق، كان وزير الخارجية أسعد الشيباني في مقرّ الأمم المتحدّة في نيويورك، يقول للعالم وحّدنا الفصائل المسلحة تحت راية جيشٍ وطني. هذه الفصائل المتطرّفة لم تعد، وفقاً لتصريح الشيباني، تمثّل نفسها فحسب، بل باتت تمثّل الحكومة وجيشها الوطني، خاصّةً بعد تنصيب قادتها رسميّاً في وزارة الدفاع، رغم تلطّخ أيديهم بدم السوريّين في الساحل والشمال. نستنتج إذاً أنَّ هذه الفصائل ليست خارجة عن القانون، بل باتت القانون نفسه، وأكثر من ذلك، باتت حكومةً بنفسها، حكومة الظلّ في دولة الشرع.
حكومة الظلّ، ممثلةً بالفصائل التي هجمت على الساحل السوريّ وعلى المناطق الدرزيّة، انتزعت للشرع ما فشلت الحكومة الرئيسية بفرضه: سمحت بانتقامٍ دمويّ من العلويّين، ودخلت إلى السويداء، ولو شكلياً. عندما لم تتمكّن الحكومة من التفاوض وحدها مع وجهاء الدروز، جاءت حكومة الظلّ لإنقاذها، فارضةً ترتيبات أمنيّة جديدة تمنح الشرع صورة السيطرة على الجنوب السوري. ولكي تنتزع حكومة الظلّ هذا الإنجاز، ما كان لها سوى أن تُمعن بإذلال الدروز، كالعلويّين قبلهم.
أريد أن أفصّل مشهدين وقفت عندهما الأسبوع الفائت، خلال حملات «التمشيط» في ريف دمشق. هي مشاهد إذلال متعمّد وموثّق ومنشور، يريد من صوّرها أن ننظر إليها ونتذكّرها جيداً. وسننظر.
نشرت إحدى قنوات التلغرام فيديو بعنوان «أسرى عناصر الهجري لدى الأمن العام في صحنايا»، يظهر فيه عنصرٌ ملثّم يرينا بكاميراه عدداً من الشبّان الموقوفين. يقترب من أحدهم ويقول: سبحان الله هذا كفر بالله عزّ وجل. قول «ماع». يضربه على أسفل رأسه ويقول: معّي ولاك. ينزّل له رأسه ويشدّه من لحيته. لو بدنا نعاملكن بالمثل كنّا عاملناكن أحلى معاملة. معّي معّي من قلبك. يقول عنصرٌ آخر للملثّم بس بقا خلص بقا، يردّ الملثّم بس؟ بحسرة، وينتهي الفيديو.
في الفيديو الثاني بعنوان «بنو أميّة نتفولنا شواربنا… أسرى دروز من جماعة الهجري بيد الأمن العام»، يقف ملثّمٌ آخر إلى جانب شابّين درزيّين. يمسك بهما من طرف شاربهما ويقول: بني أميّة شو ساووا؟ حلقولنا شواربنا. شو؟ شو؟. يلا قولها واحد، تنين، تلاتة. يردّد الملثّم: بني أميّة شو ساووا؟، ويجاوب الشابّان: حلقولنا شواربنا. يردّد الملثّم: نتفوهن نتف. شو؟ تحيّة لبني أمية.
في هذه المشاهد طبقاتٌ مختلفة من الإذلال. يحتفظ الملثّم برجولته ونفوذه، فهو محميٌّ من الملاحقة لكثيرٍ من الأسباب. يحمي شواربه، أي سلطته الذكوريّة، وراء قطعةٍ من القماش تمنحه شرعيّته كرجل أمن، بينما الدرزيّ شواربه مكشوفة، وتُنتف على مرأى جميع السوريّين. يحاول الملثّم إذاً تجريد رجلٍ من مفهومهما للرجولة، يريد إخصاءه وتعريته أمام السوريّين. في مجتمعٍ تقليدي يتمسّك بمظاهر الرجولة وفرضها، يبرز هذا الفعل كفعلٍ عنيف، يراد منه تعرية طائفةٍ بأكملها وإخضاعها، مقابل ترسيخ سيطرة طائفةٍ أخرى وتمجيد سلطتها. يظهر الإذلال إذاً كأداةٍ لفرض السلطة وكأداةٍ للحكم عبر الترهيب والتأديب والترويض.
القهر الذي تبثّه هذه المشاهد في نفوسنا كسوريّين يرفضون هذه الممارسات الترهيبية، ينبع أيضاً من إدراج فئةٍ جديدة تحت الاتّهام. فإذا كان ذنب العلويّ الملفّق أنّه فلول، فذنب الدرزيّ الملفّق أنّه انفصالي أو هجري أو أيّ كان. وهنا تكرّ سبحة التهم، ويصبح من السهل تلفيق تهمٍ مشابهة لأيٍّ منّا، حتّى «الثوريين»، فذنب الناشط عبد الرحمن كحيل في حمص كان تواجده مع فتاة «من دون إثبات» لعلاقتهما، ولم يشفع له نشاطه الثوريّ أمام اعتداء عناصر الأمن العام عليه بالضرب قبل أيّام. نرى إذا أنَّ نهج الإذلال بات سلاح حكومة الظلّ الأساسي، لترهيب الأقلّيات والأكثريّات، وبإمكانه أيضاً أن يمتدّ حتّى إلى أوفى المناصرين للدولة الانتقاليّة.
لم تعد كلّ هذه الممارسات إذاً ممارسات فرديّة أو غير منضبطة أو خارجة عن القانون، باتت ممارسات حكومة الظلّ التي نستنكرها ونتبرّأ منها بالعلن، ونحتفي بها بالسرّ. ولم تعد سوريا نفسها في الحالة الثوريّة التي كانت عليها بعد سقوط الأسد، إنّما باتت بمرحلة بناء الدولة، على حدّ تعبير الشرع. ويبدو أن ترسيخ ممارسات حكومة الظل، من الذل إلى القتل العلنيّ، أصبح جزءاً من آليّات بناء هذه الدولة. وإذا أردنا الاشتباك مع السلطة من باب النقد الديمقراطي، فعلينا أن ننظر إلى الإذلال كركيزة مستحدثة يجب محاربتها. وإذا كان ولاؤنا الأوّل والأخير للثورة السوريّة ولشهدائنا ومغيّبينا، فعلينا أن نسمّي العنف باسمه، عنفٌ طائفيّ يستلهم من إرث الأسد، ويرسّخ استمراريّة التخويف والتخوين، ويهدّد أيّ محاولةٍ لبناء سوريا التي نحلم بها، سوريا لنا جميعاً.