نوم العقل يوقظ الوحوش
للرسام الإسباني غويا
نحن في ساحة بني أمية رغم أنف بني الشيطان
الشيخ عدنان العرعور بعد عودته إلى دمشق
قُل عاش بني أمية
عنصر من الأمن العام ناتفاً شارب شاب درزي
بني أميّة الجدد
بعد غياب 53 عاماً، عاد الشيخ عدنان العرعور إلى سوريا، بلحيته الطليقة البيضاء ولهجته الحادّة التي عُرف بها، في سنوات الثورة السورية، وفتاواه التكفيرية التي تدعو إلى قتل مَن يسمّيهم «النصيريّين» (العلويين) و«الصفويّين» (الشيعة). وجاء كلامه في شريط فيديو، من وسط دمشق، وهو يفاخر بأنه من «بني أمية»، مطلقاً على بني معروف (الدروز) لقب «بني الشيطان»، تزامناً مع عمليات العنف الطائفي بحق الدروز، على خلفية تسريب تسجيل صوتي ينسب إلى أحد أبناء الطائفة وهو يسبّ نبي الإسلام محمد.
وبدا أن التفاخر الأموي يشكّل وجهاً من وجوه السلطة السورية اليوم، ومفاعيل وصول أحمد الشرع إلى رأسها. وتزداد التعليقات والخطب في ترميزها العميق إلى اعتبار وصول السنّة إلى سدّة الحكم انتصاراً للحُكم الأموي وتجديداً له ولطُرُقه. وتثبت اللغة المستخدمة حالياً من قبل أبواق النظام الجديد وعناصر الأمن العام، سعيها إلى التماثل مع خيالاتها البائدة عن تأسيس دولة سنّية، وهو ما كنّا نراه في تمجيد وصول أردوغان إلى حكم تركيا، باعتباره عودةً لحكم بني عثمان. ويؤسّس هذا التفاخر الماضوي لاستعارة أمجاد غير واقعية من حكم مضى عليه 1,300 عام، ومحاولة إطباقه على الحالة السوريّة الحديثة كنوع من العزاء جرّاء رثاثة الأحوال الخارجة لتوّها من حكم بعثي استبدادي، أماتَ كلّ صلة بالحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والروحية.
تطبيع التكفير
يدلّ ظهور الشيخ العرعور في هذا التوقيت الدقيق إلى سعي النظام الجديد لفتح مسارات للتطبيع مع «التكفير» وتبرير عمليات القتل بأدوات تطهيرية، تلبس لبوساً شرعياً، ما يسمح بإطالة عمليات الانتقام والسعار الطائفي المتأجج. في الوقت نفسه، يعطي هذا التبرير للفِرَق العسكرية المتشرّبة أفكار القاعدة والطالبان والنصرة وداعش الحق بالتمادي من دون محاسبة أو ملاحقة قانونية، وبتسهيل فقهي يقوم به أمثال العرعور. على الرغم من قيام النظام الجديد ببروفات مُمَسْرحة وفلكلورية، وبتأكيده على محاسبة الفاعلين وتحويلهم إلى العدالة وتأسيس لجان متابعة، بدا إلى اليوم أنها مجرّد أدوات دعائية غير فاعلة ولا وزن لها على أرض الواقع، وهذا ما رأيناه بعد مجازر الساحل.
لغة التخوين
الشيخ العرعور هو من مشايخ الثورة السورية الذين أعلنوا دعمها منذ اللحظة الأولى، ورافقها بظهوره الدائم على الشاشات، ببرامج خصّصت له فقرات بثّ طويلة، عمل من خلالها على التجييش الطائفي، معتبراً أن أهل السنة هم المعنيّون مباشرةً بالثورة السورية لرفع المظلومية عنهم. وتربّى على خطبه الميديَويّة فتيان منهم اليوم شباب الأمن العام ومنهم شبابٌ مُنضَوون تحت راية الجيش السوري الذي يحاول أحمد الشرع تأسيسه وصبغه بصبغة مدنية، رغم أن غالبية عناصره هم من فلول وبقايا مجموعات جهادية تربطها العصبية الطائفية وشعور المظلومية التي رسخها نظام الأسد الأب والابن.
ويُعَدّ العرعور من أكثر المشايخ العاميين شعبيةً. ومنذ ظهوره في شريط الفيديو، انتشر كلامه على وسائط التواصل الاجتماعي بمشاركة عالية في الصفحات السورية، ترحّب بعودته، وبعضهم طالب بتعيينه مفتياً للجمهورية السورية. وتكمن خطورة إعطاء المجال لشخصية مثل العرعور لتوسيع مساحة لغة التخوين، في كون العرعور مرجعية دينية لها وزنها شعبياً وتأثيرها الميديوي الواسع على شريحة شبابية محبطة، عانت من النظام الأسدي، ولم تتلقَّ تعليماً مدرسياً، وأسّست معرفتها على تديّن شعبي وبقايا كلمات رثّة تمجّ فتاوى غير مسندة، واكتسبت خبرات حياتية تحت العنف الأسدي وبين جماعات متطرفة. وهذا بدوره لن يسهم في هذه المرحلة الدقيقة من بناء الدولة السورية الجديدة، إلا في تفكيك النسيج الاجتماعي وفي المزايدة الطائفية التي ستزكّي حتماً عمليات القتل والذبح والتصفية الطائفية والمجازر المتنقلة بين البلدات العلوية والدرزية.
الحارة والوصم الاجتماعي
يأخذ السعار الطائفي شكلاً ذكورياً وأبوياً، تمثّل في حملات «نتف الشوارب» المتنقلة في مناطق الدروز، لا سيما صحنايا وأشرفية صحنايا. وأظهرت شرائط الفيديو المنتشرة قيام عناصر الأمن العام، بشكل ساخر وبلغة ذكورية تحطّ من قيمة الأشخاص وتعرّضهم للإهانة والاستهزاء والاحتقار والإذلال، من خلال توثيق عمليات نتف شواربهم عبر كاميرات الهاتف وبثها لاحقاً على وسائل التواصل الاجتماعي بتعليقات تكشف خطاباً أبوياً هدفه العقاب والتسلط والتأديب.
وتدل هذه السلوكيات على محاولة أبويّة لتحطيم صورة متخيَّلة عن الرجولة والشهامة. وهي أشبه بقيم تعلي من شأنها ومفاهيمها «الحارة» وليس «الدولة». وبدت أفعال العناصر العسكرية أشبه بأفعال انتقامية هدفها التقليل من شأن الرجال الدروز ومعاقبتهم من خلال الحطّ من قيمتهم بنتف شواربهم والتمثيل بصورتهم وهزّها وكسرها وتعريضها للوصم الاجتماعي.
تمشيط ذكوري
تتماثل هذه التصرّفات مع فكرة العقاب في مسلسل «باب الحارة» السوري، لدى «العقيد» وجماعته. وهذا التماثل يتماهى مع فكرة الحارة ويعليها على فكرة الدولة التي تقوم (طبيعياً) بالمحاسبة بالأطر القانونية والمرعية الإجراء ومن خلال أدوات تسعى إلى إدانة الجناة وتبرئة الضحايا. لكن ما بدا من سلطة أمر الواقع السورية اليوم لجوء هذه العصابات إلى أساليب ذكورية كان ينفذها النظام الأسدي وعناصر مخابراته في أفرع التحقيق وأقبية السجون لإهانة الضحايا والمدنيين وإذلالهم. ويبدو أن هذه العناصر الشابة، التي تنفذ تمشيطها الذكوري، في حملات النتف، تتفوّق في مخيالها فكرة «حكم الحارة» و«الفتوّات» على فكرة الدولة. وهم بذلك يعبّرون عن عدم قناعة بوجوب قيام دولة وربما باستحالة إقامتها في ظل تركة ثقيلة من نظام بائد، ومحاولة أحمد الشرع التفرد بالحكم من خلال جماعته التي لم تخرج من عباءة الجهاد وفكرة أسلمة المجتمع وقيادة الرجال والغالبية السنية فيه.
يبدو أن سوريا اليوم، في ظل حكم هشّ ومؤسسات هزيلة، غير قادرة على ضبط الطائفية التي حبسها النظام البائد لعقود، والتي تظهر اليوم بأشكال عنيفة وخطيرة، وتعرقل أي محاولة جدية لتأسيس عقد اجتماعي سوري يقوم على المواطنة والعدالة الانتقالية والمحاسبة من دون تفرقة أو تمييز، عدا عن إعادة الثقة بما قد نسميه يوماً الدولة السورية الحديثة.