جسّدت سياسة الحصار المطبقة لحكم الأسد، تحت شعار «الجوع حتى الركوع»، منهجاً معقّداً يعتمد على تدمير البنى التحتيّة وعزل التجمّعات السكنية وفلترتها عبر الحواجز الأمنية. واستفادت هذه التقنية من الخصائص العمرانية للمدن، كتوزيع الساحات والمباني والممرّات، وتماشت مع تحرّكات السكان وتمركز المرافق الحيوية. أفضت هذه السياسة إلى إعادة تشكيل التركيب العمراني بما يخدم أجندة النظام وتشويه النسق المجتمعي-الاقتصادي عبر (1) خلق مسارات معيشية تتعارض مع احتياجات السكان و(2) انتزاع المناطق المحاصرة عن سوية النسيج الحضري العام، ممّا عمّق إقصاءها وتهميشها. لم يكن العنف الأسدي عشوائيًا، بل اعتمد على العمران كأداة حرب.
العمران كأداة حرب
لم يبدأ الأمر مع القمع في سوريا، بل يعود ترافُق العمران مع استراتيجيات العنف إلى بدايات العمران ذاته، وإن تكاثفت العلاقة مع تطور التكنولوجيا. وشهدنا منذ الحرب العالمية الثانية تكتيكات حرب حضرية حديثة، تنتقل من مفهوم ساحات المعارك المفتوحة إلى القتال داخل المشهد الحضري للمدينة، وتزايد هذا النمط مع «الحرب على الإرهاب». وقد شهد التاريخ الحديث أمثلة عدة تحولت فيها البنى الحضرية إلى ميادين حربية، منها حصار سراييفو خلال حرب البوسنة والهرسك و/أو تقسيم برلين في الحرب الباردة حين استُخدِمت المباني والشوارع كخطوط دفاع وهجوم، والحصار الإسرائيلي للقطاعات الفلسطينية، وكما سنرى لاحقاً فرض النفوذ من خلال محاصرة المدن السوريّة.
يتناول ذلك دولوز وغاتاري، في كتابهما «ألف هضبة»، من خلال شرح مختلف التصنيفات المكانية واستراتيجيات حركة الخصوم حيث ترتبط المساحات المخطّطة بالمستقرّين والمساحات الملساء بحركة البدو، ويشكل صراعهم مواجهة بين الدولة وآلة الحرب. العمران إذن لا يُفهَم خارج سياسة الحرب، ليتماهى الإثنان سويًا. هذا ما طبّقه الحراك العسكري الإسرائيلي في حصار مخيم نابلس عام 2002 من خلال الهندسة المقلوبة، حينما اعتمد على تجاوز الشوارع الرئيسية للمخيم واختراق جدران النسيج الحضري الكثيف لمفاجأة المقاتلين الفلسطينيين. فكما يكتب إيال وايزمان
بدلاً من الخضوع لسلطة الحدود المكانية والمنطق التقليديين، أصبحت الحركة مكوِّناً جوهرياً يشكّل الفضاء ذاته. فالتقدّم ثلاثي الأبعاد من خلال الجدران والأسقف والأرضيات، عبر الكتلة الحضرية، أعاد تفسير واختزال وإعادة تركيب كل من البنية المعمارية والنسيج الحضري.
وبسبب اختلاف أنواع المدن والفضاءات المكانية، تتطلّب إعادة تركيب البنية المعمارية فهماً دقيقاً لخصوصية كل مكان حضري وسمات توزيعه المعماري المتفرّد. في كتابه «الأرض الجوفاء»، يتناول وايزمان تحصينات الهندسة المعمارية لآرييل شارون، مدير التدريب العسكري آنذاك، والذي صمّم استراتيجية دفاعية على خط بارليف مع قناة السويس سنة 1971، اعتمدت على تحصينات خطية، ودفاعات نشطة على هيئة شبكة متداخلة من النقاط الحصينة في العمق. ارتبط نجاح رؤية شارون بصعود التيار اليميني الإسرائيلي وتدشين المناطق الحدودية. وقد تعزّز هذا الربط بتعيينه لاحقًا كممثل وزارة شؤون المستوطنات في حكومة الليكود الأولى، ممّا مكّنه من تحويل عقيدته العسكرية إلى إطار تنظيمي يُطبَّق في المستوطنات. وقد عكست سياسات الاحتلال المدني طويلة المدى في الضفة الغربية، عبر الحواجز العسكرية وتدمير المنازل وجرف الأراضي وما شابه، تشوُّهاً منهجياً للبنية المجتمعية والاقتصادية للمنطقة، حيث تفرض قيوداً بنيوية تحول المجتمع إلى كيان مقيّد ومحاصر، تضمحلّ فيه إمكانيات التطور الذاتي تحت وطأة الآلة العسكرية-المدنية المزدوجة.
لم يكن الجيش الإسرائيلي الوحيد الذي استعمل العمران وأعاد تركيبه لمآرب عسكرية. ففي الحالة السورية، اعتمد النظام على تكثيف القصف الجوي والمدفعي ونشر الألغام لصناعة فضاء أملس، كما فرضت حواجزه الأمنية عند الممرات الحيوية تطويقاً وفلترة للسكان، محوِّلةً المنطقة إلى فضاء مخطّط. استخدم النظام فكرة «الانتزاع الثقافي والاجتماعي للسكان» واستبدالها بمنظومة الأسد لتصميم فضاء مكاني خاص يعمل وفق السياسات الأمنية لعناصر قوات أمنه. ففي المناطق الخالية من القصف، نشطت الحياة التجارية والسكانية تحت حماية القوات النظامية، بينما تحوّلت الأحياء المحاصرة إلى السبات المعيشي، حيث لقي الكثير حتفهم جوعاً، ناهيك بضحايا الغارات والاعتقال التعسفي. فعمل الأسد على إعادة هندسة المسارات المجتمعية-الاقتصادية عبر تفكيك بنية المجتمعات المعارضة وتعزيز تجمّعات الموالين، وفرض سيطرة مؤسّستيّة مطلقة.
تحوّلت حروب اليوم إلى استخدام المدن كميدان حرب، حيث تعاد هندستها عمرانيًا لفرض هيمنة سياسية وصياغة مجتمعات جديدة، باستخدام تقنيات عمرانية تختلف باختلاف السياق المكاني، كما في الحالتين الإسرائيلية والسورية.
جنوب العاصمة
تشكّل السيطرة المكانية على جنوب دمشق نموذجاً مصغَّرًا لسياسة الأسد المكانية. فقامت قوات النظام السوري بتوزيع نقاط سيطرتها العسكرية وفقًا للخصائص الجغرافية والديموغرافية لكل منطقة (كانتونات)، حيث تمركزت الميليشيات الشيعية الموالية عند حاجزَيْ سيدي مقداد/ببيلا والحسينية/عقربا في الطرف الجنوبي الشرقي، لقربهما من مقام السيدة زينب بذريعة حمايتها، بينما سيطرت الفصائل الفلسطينية الموالية على حاجز مدخل مخيم اليرموك (الريجة) في المنطقة الوسطى. وانتشرت القوات النظامية عند حاجزي السبينة والقدم في الجنوب الغربي، في خطوة لتأمين محور التمدد نحو الريف المجاور. وأسندت السيطرة على القسم الجنوبي من حي التضامن للجان الشعبية للحي، أي «ميليشيات شارع نسرين»، والتي نفذت عمليات اعتقال وقتل واسعة ضدّ مدنيين عُزّل، حيث اقتادتهم إلى «حفرة التضامن».
بدأ الهجوم باستهداف المرافق الصحية والمخابز والمنشآت الاقتصادية (المعامل في السبينة) وحرق الأراضي الزراعية (في بيت سحم، ببيلا، والحجر الأسود). ثم تصاعدت وتيرته لاستهداف البنى التحتية الحيوية. إلى جانب تدمير البنى التحتية، فرضت سلسلة نقاط تفتيش عسكرية حصارًا جزئيًا، تحوّل لاحقاً إلى حصار كامل مع تطوّر الأحداث، حيث قُطِعت فيه كافة إمدادات الغذاء والكهرباء والمياه.أمّا في الامتداد الجنوبي من خط الحصار، فشنّ النظام هجمات عسكرية مكثّفة ومتكرّرة، مما أجبر السكان على النزوح للمناطق المحاصرة. أما في المحيط الشمالي القريب من قلب دمشق، فقد عزّز النظام سيطرته عبر نشر حواجز أمنية. من جهة أخرى، نظمت فصائل مختلفة من المعارضة المسلحة خطوط دفاعها عبر إنشاء حواجز داخلية وفرضت سيطرتها على السكان، بحسب عقيدتها.
صنفت منظمة siege watch الحصار في المدن السورية ضمن ثلاثة مستويات، وطبّقت هذا التصنيف على الحصار الذي طال جنوب دمشق. في أحياء القدم ويلدا وببيلا، أعتُبِر الحصار من المستوى الثالث، حيث اعتمد السكان على الحقول المحيطة لتأمين جزء من احتياجاتهم. بينما صُنِّف حصار الحجر الأسود ضمن المستوى الثاني، إذ تمكن السكان من تهريب الغذاء عبر رشوة نقاط التفتيش. أما الأكثر قسوة، فكان حصار مخيم اليرموك المصنّف ضمن المستوى الثالث، والذي سُمِّي من 2012 حتى 2014 بـ«الحصار الخانق» لاستحالة إدخال المساعدات الإنسانية إلا عبر شروط تعجيزية.
اعتمد نظام الأسد في احتلاله المدني على فرض تحصينات خطية عند المداخل الحيوية في سبيل الإحاطة، ثم تسوية المنشآت في خطوة لنزع السيطرة المكانية للخصم، وفرض حصار الجوع لاحتواء ما تبقى من تمرد المعارضة.
فضاء مكانيّ للمجزرة
عمل استغلال المعارضة للتشابك العمراني في جنوب التضامن- حي سليخة على نشوء اشتباكات عنيفة على امتداد شارع دعبول المحاذي لأماكن تجمّع ميليشيات شارع نسرين. فعمدت قوات النظام للقصف العنيف وإرغام المعارضة على التراجع. وفي ما يخص الإحاطة الخطية وإنشاء مصفوفة من الحماية، قسمت الحواجز الأمنية المنطقة بخط افتراضي يصل بين جامع العثمان في الربع الأول لشارع دعبول وبين الاتجاه الغربي إلى سينما النجوم عند تخوم مخيم فلسطين المجاور. وفي خطوة لتجسيد الحدود المادية بين الخارج والداخل، وبالتالي مفاهيم الحماية والرؤية، أكمل النظام تسوية المكان بتلغيم بعض منازل الحي (من جامع العثمان حتى الحدود الجنوبية قرب يلدا).
في تحويل حي سليخة لحدود بصرية مفتوحة، صُنع فضاء حفرة مجزرة التضامن كنقطة تمركز للعنف الممنهج من خلال إعادة ترتيب العناصر المعمارية. قامت قوات النظام بتسوية ممنهجة لبناء فضاء رحب لاستخدامه في عمليات القتل والدفن. اقتادت ميليشيات شارع نسرين التابعة للدفاع الوطني المعتقلين العزّل إلى الحفرة وحوّلت المحالّ وما تبقى من أبنية إلى مراكز اعتقال عشوائية، كما أجبرت الأهالي في الأحياء المحيطة على السخرة في أعمال الحفر، وتغيير باقي معالم المكان لتصبح ساحة معدّة مسبقاً لتنفيذ عمليات إعدام ميدانية. روّضت آلة الحرب الأسدية، بالقوة، المكان ليصبح منصّة حرب حضرية تسير على ديناميكيات مرنة، متوافقة مع المجازر الممنهجة.
مثّلت حرب النظام السوري التي امتدت 14 عاماً سياسات احتلال مدني ممنهج. اعتمد فيها النظام على تقنيات التسوية عن طريق القصف بالصواريخ وتطويق الحركة من خلال الحواجز الأمنية، كأدوات لإعادة هندسة النسيج الحضري بما يخدم تعزيز نفوذه. فمن خلال محددات الحصار التي فرضها لستّ سنوات، انتزع مناطق تجمعات المعارضة من النسيج العام وحوّلها إلى جيوب معزولة. لم يكن تدمير النظام عشوائياً، بل تحرّك وفق المفاصل الحيوية في جنوب دمشق، معيداً تشكيل مسارات الحركة السكانية والأنشطة الاقتصادية والتفاعلات المجتمعية. هذا التحكّم المتعمّد في التشريح الحضري أدّى إلى تفكيك البنى الاجتماعية القائمة، واستبدالها بمنظومة طبقية تخدم هيمنة السلطة.