تعليق هندسة الانهيار الاقتصادي
ناجي أبو خليل

نهاية السرية المصرفية: تشيرنوبيل لبناني؟

28 نيسان 2025

بينما يُحتفل بالذكرى التاسعة والثلاثين لكارثة تشيرنوبيل النووية، عادت إلى ذهني عبارة لأحد المسؤولين السوفيات في الساعات التي تلت انفجار المفاعل النووي: الذعر أخطر من الإشعاعات، عبارة نقلها بدقة المسلسل الذي أنتجته HBO حول الكارثة. يروي المسلسل بوضوح محاولات المسؤولين التستر على الحقائق، إلّا أن حجم الكارثة والديناميات السياسية الداخلية للاتحاد السوفياتي انتصرت على السردية الرسمية. هذه المرّة، خرج الواقع عن سيطرة النظام وامتدّت السحابة المشعة إلى خارج حدود الاتحاد السوفياتي، وكان باحثون سويديون أول من دق ناقوس الخطر.

جعلتني هذه العبارة الغريبة أفكر في السردية التي تبنتها الطبقة السياسية-الميليشيوية اللبنانية وحلفاؤها ضمن الأوليغارشية المالية، حينما رفضوا لسنوات رفع السرية المصرفية عبر البرلمان اللبناني. أكثر من أي شيء آخر، كانوا مصابين برُهاب الأرقام، وعملوا جاهدين على منع أي تدقيق في الحسابات العامة والمصرفية، رغم أن غالبية المصارف كانت متوقفة عن السداد منذ أكثر من خمس سنوات. لكن، هذه المرة، تجاوزت إشعاعات بعض المصارف اللبنانية حدود البلاد لتصبح مصدر قلق عربي ودولي، خاصة في الرياض وواشنطن. تلاقت الضغوط الخارجية مع إرادة الحكومة اللبنانية الجديدة التي تم تعيينها في شباط الماضي، لدفع البرلمان نحو التصويت لرفع السرية المصرفية.

اضطر البرلمان اللبناني الذي اعتاد في غالبيته على رفض الإصلاحات، إلى التصويت في 24 نيسان على رفع السرية المصرفية، رغم أن هذه السرية قد رُفعت إلى مصاف «دين دولة» منذ دخولها حيز التنفيذ عام 1956. وقد تناولت المناهج المدرسية بإسهاب مزايا السرية المصرفية، واعتبرتها اساساً في العصر الذهبي للبنان، إذ مكنته من جذب البترودولار والرساميل العربية الخاصة الهاربة من التأميمات. 

ومع اندلاع الحرب الأهلية في 13 نيسان 1975، فقدت بيروت تدريجياً جاذبيتها المالية، بينما غرق البلد في حالة عدم استقرار مزمنة. وعلى الرغم من ذلك، ظل القطاع المصرفي مزدهراً، حيث استُبدلت التدفقات المالية الداخلة بأرباح اقتصاد الحرب، القائم على التهريب وممارسات الميليشيات المفترسة، إضافةً إلى تمويلات حكومات خارجية داعمة لأطراف النزاع المحلي. هكذا، نشأت تحالفات بين الطبقة السياسية-الميليشيوية وبعض المصارف اللبنانية. 

امتدّ هذا التحالف لما بعد الحرب الأهلية، حيث لعبت بعض المصارف دوراً مزدوجاً في الاقتصاد السياسي اللبناني: من جهة، اجتذبت ثروات المغتربين اللبنانيين مقابل فوائد مرتفعة لتعويض المخاطر المرتبطة بخياراتها الاستثمارية. ومن جهة أخرى، موّلت الدين العام الضخم مقابل فوائد وصلت إلى نحو 20% قدمها مصرف لبنان، ما مكن من تمويل دولة ريعية وشبكات زبائنية، إلى أن بلغ الدين العام 280% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2022، ليتنافس لبنان مع السودان على لقب أكثر الدول مديونية في العالم. في تشرين الأول 2019، وعندما عجزت المصارف عن تلبية طلبات السحب بالدولار، انهار هذا البناء الوهمي، وقررت المصارف حجز الودائع بشكل غير قانوني.

رغم فداحة الأزمة التي وصفها البنك الدولي بأنها الأسوأ منذ منتصف القرن التاسع عشر، رفضت الميليشيات والمصارف تحمّل أي مسؤولية، واستمروا في استخدام السرية المصرفية لحجب الحقائق والأرقام التي قد تدينهم. ومن خلال خطاب مموّه، اتهموا من يطالب بالإصلاحات أو يكشف الخلل بـ«التآمر» على المصلحة الوطنية. بمعنى آخر، لم يكن الخطر في حقيقة ارقامهم، وإنما في مجرد الحديث عنها خشية إثارة الذعر.

في الذكرى العشرين لكارثة تشيرنوبيل، نشر ميخائيل غورباتشوف مقالاً في صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية عام 2006، اعتبر فيه أن الكارثة كانت السبب الحقيقي لانهيار الاتحاد السوفياتي، إذ قام بعدها بتسريع سياسة الغلاسنوست (الشفافية)، والتي كانت أكبر أثراُ من قدرة النظام على تحمّلها.

في لبنان، توالت الكوارث التي كان يمكن أن تشكّل لحظة حقيقة: الأزمة الاقتصادية، انفجار مرفأ بيروت في آب 2020، الحروب، فضائح الفساد، والاغتيالات. لكن الطبقة السياسية-الميليشيوية وحلفاءها الماليين حافظوا بشراسة على أسرارهم وعطلوا التحقيقات وتجاوزوا خلافاتهم لحماية أنفسهم. اليوم، يبدو أن هناك تحولاً كبيراً، وقد تراجع دور الحامي الأساسي لهذه الطبقة، أي حزب الله، بعد الحرب الأخيرة. فالإرادة الإصلاحية للحكومة الجديدة، المدعومة دولياً، أربكت هذه الطبقة. كان البرلمان اللبناني محطّ الأنظار الدولية وهو يصوّت على رفع أحد أخطر أسراره منذ عام 1975. علّ هذا التصويت يطلق ديناميكية جديدة من الشفافية لا قدرة لهذه الطبقة على تحمّلها. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
53,339 شهيداً في غزّة خلال 600 يوم من العدوان
فكشن

مصمّم عقاري

عمر ليزا وكارن كيروز
4 ساعات قبل إقفال الصناديق
استهجان الجمهور خلال العرض الإسرائيلي في «يوروفيجن»
إنّه الربيع مجدّدًا
نقد

إنّه الربيع مجدّدًا

فرانشيسكو أنسلميتي
بعد 5 أشهر على سقوط النظام
OSZAR »