أظهر انتخاب ترامب شبكة واسعة من أثرياء العالم، ومعهم شركاتهم ومنظّروهم، الذين يحاولون تغيير العالم. فبدا ترامب الصورة المؤقتة لتحوّل أعمق، قد يبدو مجنونًا ولكنّه يزداد واقعيةً مع مرور الوقت. فهل نحن على مشارف عالم جديد، مخيف في عنفه ومقلق في جديده الذي لم ينتج بعد لغة مقاومته.
1 - عالم جديد
يزداد الاحتقان والتوتر بين مصر وإسرائيل.
الجارتان تراكمان المعدات العسكرية على الحدود، والانتقادات العلنية تتصاعد من المسؤولين الرسميين في البلدين. في مصر، يتزايد التلويح بإلغاء اتفاقية السلام كأعلى أشكال الاحتجاج على السياسات الإسرائيلية. لكن المعضلة أن هذا التهديد أصبح بلا جدوى في ظل رؤية وأفعال سياسية تقودها النخبة العالمية الجديدة/الأوليغارشية، التي تسعى إلى تفكيك النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية، من الأمم المتحدة إلى بنية الدول القومية ذاتها.
فكل القرارات التي اتخذتها إدارة ترامب حتى الآن، والخطط التي أعلنوا عنها، تشير إلى انفصال عن النظام العالمي الذي أسسته أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، بدءاً من إيقاف كل برامج المساعدات والتنصل من التزاماتها العسكرية والسياسية تجاه أوروبا، والتهشيم الكامل لصورة أميركا كراعية للسلام والتجارة الحرة وصوت بروباغندا الديمقراطية والحرية. كل هذا يرتبط بتغيير هيكل تقوده النخبة الاقتصادية لتغيير بنية النظام السياسي والتراتبية الاجتماعية داخل أميركا. يعلنونها صراحةً منذ سنوات: الديمقراطية لا تناسب أميركا في الوضع الحالي، ويجب التخلص منها.
نحاول في هذا النص استكشاف ملامح وحدود هذا العالم الذي بدأ في التحول من حلم في رأس الأوليغارشية الأميركية إلى كابوس نعيشه ويحدق فينا من المستقبل.
2 - الشبكة وراء الصورة
من الخطأ وصف ترامب وسياساته بالجنونية أو الناتجة عن جهل سياسي.
ترامب مجرد صوت وممثل لهذا العالم الجديد. وخلف كل قرار ثمّة شبكات من النفوذ والمصالح وتريليونات الدولارات وشبكات من أثرى أثرياء العالم من ضمنها أثرياء وملوك الخليج ورواد الأعمال في وادي السيليكون.
ترامب مجرد صوت وممثل لهذا العالم الجديد. وخلف كل قرار ثمّة شبكات من النفوذ والمصالح وتريليونات الدولارات وشبكات من أثرى أثرياء العالم.من أبرز هؤلاء بيتر ثيل (Peter Thiel)، وهو رجل أعمال أميركي من أصل ألماني، وُلد عام 1967، وبدأ حياته المهنية في القانون قبل أن ينتقل بسرعة إلى عالم التمويل والتكنولوجيا. كان ثيل من مؤسسي شركة «باي بال» (PayPal) بالتعاون مع إيلون ماسك (Elon Musk)، وقد شهدت علاقتهما توترات انتهت بسيطرة ثيل على الشركة وإزاحة ماسك من إدارتها في مراحل مبكرة. ثيل معروف بدعمه السياسي الكبير لدونالد ترامب، حيث تبرع بمبلغ 1.25 مليون دولار لحملة ترامب الانتخابية عام 2016، وعمل ضمن فريق انتقال السلطة بعد فوز ترامب. أما الآن، فأثناء الحملة الانتخابية، كان لديه مكتب خاص في برج ترامب، وهو مسؤول عن تعيين الكثير من مساعدي ترامب في الإدارة الحالية.
ثيل ليس مجرد مستثمر في التكنولوجيا، بل هو لاعب أساسي في قطاع الدفاع. يمتلك شركة «بالانتير» (Palantir)، وهي منصة مراقبة واستخبارات تُستخدم على نطاق واسع داخل الحكومة الأميركية، بما يشمل وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي ودائرة الهجرة والجمارك ووزارة الأمن الداخلي والعديد من قوات الشرطة. «بالانتير» أيضًا دخلت القطاع الخاص عبر شركات مثل «كامبريدج أناليتيكا» (Cambridge Analytica). أنظمة ثيل تُستخدم اليوم في منظومات دفاعية أوروبية وعالمية، ولا أحد يعلم كم من السلاح «الأميركي» الذي يصل للدول العربية مرتبط بتقنيات مملوكة له.
أسس بيتر ثيل شركة «بالانتير» عام 2003 لمساعدة أجهزة الأمن الأميركية على ملاحقة إرهابيّي 11 أيلول. تطورت شركة «بالانتير» إلى واحدة من أهم أذرع التكنولوجيا الاستخباراتية في العالم، وبالأخص في خدمة المشاريع الاستعمارية الإسرائيلية. وبدعم مباشر من وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) عبر ذراعها الاستثماري «In-Q-Tel»، طورت «بالانتير» خبرتها في ملاحقة الأفراد، وتحليل الشبكات الاجتماعية، وتوقع السلوك البشري بناءً على البيانات الضخمة.
هذا التخصص جعل منها شريكًا مثاليًا لإسرائيل. في عام 2020، افتتحت «بالانتير» مكتبًا رسميًا في تل أبيب، وبدأت في تقديم خدماتها للجيش الإسرائيلي، بما في ذلك أنظمة مراقبة تستند إلى الذكاء الاصطناعي لتحليل تحركات الفلسطينيين داخل الضفة الغربية وغزة. اليوم، تُستخدم تكنولوجيا بالانتير لرسم خرائط اجتماعية دقيقة للفلسطينيين: من يلتقي بمن؟ من ينقل الطعام؟ من يسهر طويلًا في الليل؟ هذه الأنظمة لا تراقب وحسب، بل تسهل أيضاً عمليات الاغتيال والاستهداف العسكري، حيث تتحول الحياة اليومية في فلسطين إلى معطيات قابلة للقتل بضغطة زر. وذلك بينما تروج الشركة لمنتجاتها بوصفها أدوات لـ«حماية الديمقراطيات».
يرتبط بيتر ثيل بعلاقة وثيقة مع بالاجي سرينيفاسان، الملياردير والكاتب والمفكر صاحب كتاب «الدولة الشبكية» The Network State، إذ يشترك الاثنان في سلسلة من المشاريع التقنية والاستثمارات الفكرية والسياسية التي تصب جميعها في هدف واحد: تأسيس عالم جديد خارج إطار الدول القومية التقليدية. من بين هذه المشاريع، يبرز مفهوم «الدولة الشبكية» (The Network State)، أو ما يسميه هو وأصدقاؤه بالتكنوصهيونية، وهذه ليست مجرد فكرة مجردة، بل خطة عملية يُضخ فيها اليوم مليارات الدولارات.
يبرز مفهوم «الدولة الشبكية» (The Network State)، أو ما يسميه هو وأصدقاؤه بالتكنوصهيونية، وهذه ليست مجرد فكرة مجردة، بل خطة عملية يُضخ فيها اليوم مليارات الدولارات.لعلّ أحد أبرز النماذج القائمة على هذا التصور هو مشروع «براكسيس» (Praxis)، الذي أُطلق عام 2019 ويهدف إلى بناء مدينة-دولة في قلب البحر المتوسط — لم يُعلن عن الموقع النهائي بعد، ربما غزة أو رأس الحكمة في مصر. حسب ما تعلنه الشركة، فإن براكسيس تضم حتى نيسان/أبريل 2024 أكثر من 2,034 «مواطنًا»، و124 شركة، وتُقدّر القيمة الإجمالية لشركات أعضائها بحوالي 452 مليار دولار. في البيانات الرسمية لبراكسيس، تظهر رؤية صادمة لمستقبل العالم، لكنها أيضاً تصلح كإجابة لكل من يراقب أفعال إدارة ترامب ويتساءل ما هي الخطة والهدف النهائي خلف هذه القرارات؟
تتكرر هذه الرؤية بصيغ مختلفة في أحاديث ومقالات دوائر التفكير وصنع القرار حوله، وتطرح نفسها كنبوءة وبشارة: مع تفكك المجتمعات المحلية وتعثر الدول القومية، ستصعد الدول الشبكية. القوة العظمى القادمة ستكون دولة شبكية. أميركا القادمة ستكون مشفرة.
الهدف المعلن هو بناء حكومة شراكتية ذات حضور عالمي، تمتلك أراضي في أماكن متعددة حول العالم، وتعتمد على العملات الرقمية بديلًا للعملات الوطنية التقليدية. وتتكون تلك الدولة من مجموعة من المدن تجمعها قيم إيديولوجية واحدة. تصف براكسيس النظام العالمي الحالي بأنه بنية مهترئة وغير قادرة على أداء أبسط وظائفها، وتعلن أن سقوط الدول القومية ليس مجرد احتمال، بل ضرورة تاريخية لتقدم الإنسانية. وهي ليست الشركة الوحيدة العاملة في هذا المجال، فهناك شركات متعددة تعمل الآن في مجال التخطيط لخلق دول المستقبل، وهناك شركات أكبر تعمل على تمويل مشاريع إنشاء تلك الدول المستقبلية مثل شركة «برونوموس كابيتال» (Pronomos Capital) التي تمول إنشاء مدن- دول أخرى بنفس الفكرة؛ تبدأ أولًا كمجتمعات افتراضية سحابية، ومع تأمين الأراضي، يبدأ الأعضاء في الانتقال الفعلي للعيش في هذه المدن الجديدة.
3 - فاشية جديدة
رجال الأعمال الذين يقفون خلف هذه المشاريع ليسوا مجرد أثرياء يراكمون المال، بل هم صُنّاع ثروات قادمة أساسًا من الإقطاع الرقمي. تراهم من حولك: في الشاشة التي تقرأ منها هذا المقال، وفي التطبيق الذي ستستخدمه لمشاركته مع من يهمك أمره. هم من يملكون الخوادم التي تختزن كل صورة ورسالة تبادلتها مع أمك أو حبيبتك. وبوسعهم استخدام الأجهزة المحيطة بك بطرقٍ لا تخطر لك على بال— كما حدث مع تفجير أجهزة «البيجير» قبل عام في لبنان. هؤلاء لا يكشفون عن قدراتهم التقنية إلا في أضيق الحدود؛ مثلما اكتشفنا مؤخرًا أن شبكات الإنترنت اللاسلكية «واي فاي» يمكن تحويلها إلى كاميرات وسونار لتعقب حركة البشر في الغرفة.
فاشية جديدة لا تزال بكيسها، لا تصرخ في الميادين.
لا ترتدي خوذة وتشد حزامها الجلدي.
تأتي مبتسمة، في صورة تطبيق مجاني، في رائحة وردة على شكل ناطحة سحاب في مدينة مستقبلية، في نصيحة ودودة من رجل يرتدي قميصًا أبيض ونظارات خالية من الخوف، يتحدث عن التعافي والنجاة عبر أكل الجزر بانتظام، وممارسة اليوغا والتأمل في وضع الفلقسة الساعة الرابعة فجراً.
لا رايات.
لا شعارات.
لا طلقات في الهواء.
فقط «سياسة خصوصية» توافق عليها وأنت تتثاءب.
4 - عالم من المدن
الهدف الأبعد الذي يخطط له بالاجي وداعموه هو تأسيس عدة مدن مسورة خارج إطار الدولة القومية ونظام القضاء الوطني (ربما تسمع صدى صوتك في رأسك من مشروع نيوم).
وبينما تنهار الدول القومية جميعاً، وعلى رأسها أميركا، بفعل جهودهم الأخرى، تبدأ هذه المدن في تقديم نموذج جديد، تصبح فيه الدولة عبارة عن شركة، والمواطنون مجرد مستخدمين أو أصحاب أسهم.وبينما تنهار الدول القومية جميعاً، وعلى رأسها أميركا، بفعل جهودهم الأخرى، تبدأ هذه المدن في تقديم نموذج جديد، تصبح فيه الدولة عبارة عن شركة، والمواطنون مجرد مستخدمين أو أصحاب أسهم. أما جغرافيا الدولة/ الشبكة، فتتشكل من مجموعة مدن مسورة تجمعها أيديولوجيا أو أهداف ربحية واحدة، وتحميها أنظمة دفاع يديرها الذكاء الصناعي وميليشيات متنوعة الأعراق من مرتزقة محترفين، وفوق ذلك معهم سلاح نووي، سيف مرفوع فوق كل سكان الكوكب في حالة محاولة التصدي لاستحواذهم على ثروات الكوكب.
5 - انتهاء صلاحية الديمقراطية
لكن كيف الوصول إلى هذا الهدف؟
في عام 2009، كتب ثيل بيانًا بعنوان «تربية ليبرتالي» (The Education of a Libertarian)، أعلن فيه تبرؤه من السياسة الانتخابية والديمقراطية، لأنه ببساطة لا يثق في قدرة الشعوب على اتخاذ القرارات الكبرى. مع مرور الوقت، صار يؤمن أن الديمقراطية والحرية مفهومان متضادان بطبيعتهما. تحدّث طويلاً عن ضرورة إيجاد مناطق يستطيع فيها «الرجال العظماء» اتخاذ قراراتهم بحرية، دون قيود القانون، حتى لو كانت هذه القرارات مثلاً اختطاف صحافي في دولة أجنبية ونقله إلى السفارة لقتله هناك ثم تقطيع جسده وإذابته في الحامض.
هذه الأحلام يتشارك فيها أثرى أثرياء العالم وحكامه بغض النظر عن لون بشرتهم أو جنسيتهم أو الإله الذي يصلون له، وبيتر ثيل واحد منهم. وجد تجسيداً لأحلامه التكنوصهيونية في كتب وأفكار مؤرخ آخر وهو كيرتس يارفين (Curtis Yarvin)، المؤرخ الذي يُوصف كثيرًا بأنه «الفيلسوف الخاص» لثيل. لم يكتفِ ثيل بالاستثمار في عدة شركات أسسها يارفين، بل احتفظ به ضمن دائرته الضيقة، حتى أن يارفين تابع نتائج الانتخابات الرئاسية عام 2016 من منزل ثيل، حيث احتفلوا معًا بانتصار ترامب. وبينما لا يصرح بيتر ثيل بأفكاره الراديكالية بنفس وضوح يارفين، إلا أن تلاقي الرؤية السياسية بينهما لا تخطئه العين.
كيرتس يارفين أيضا هو ملهم لجاي. دي. فانس، نائب الرئيس الأميركي. لا يمر خطاب لفانس دون أن يتحدث عن أفكار يارفين، أو يستخدم مصطلحاته. إلى جانب كون يارفين صديقاً وملهماً كذلك لمليارديرات آخرين يرددون أفكاره ويتفاخرون بمعرفته واستشارته، من أبرزهم مارك أندريسن (Marc Andreessen)، جيف بيزوس (Jeff Bezos)، ديفيد ساكس (David Sacks)، بين هورويتز (Ben Horowitz). سأترك للقارئ البحث عن هذه الأسماء وسيرتها واكتفي بالقول إن مجموع ثرواتهم والأصول التي يديرونها يتجاوز الاثنين تريليون دولار على الأقل.
في عام 2022، نشر كيرتس يارفين ورقة شهيرة بعنوان «ثورة الفراشة» (The Butterfly Revolution)، قدّم فيها خطة عمل لإنهاء الديمقراطية في أميركا. تبدأ الخطة ببناء نظام ظلٍّ بديل، يتسلل بهدوء إلى قلب النظام الأميركي القائم، مترقبًا اللحظة المناسبة للانقضاض الكامل. في هذه الأثناء، تُقام مؤسسات موازية تعمل بصمت، وتُظهر تفوقًا أخلاقيًا ومهنيًا على مؤسسات النظام القديم.
تبدأ الخطة ببناء نظام ظلٍّ بديل، يتسلل بهدوء إلى قلب النظام الأميركي القائم، مترقبًا اللحظة المناسبة للانقضاض الكامل. في هذه الأثناء، تُقام مؤسسات موازية تعمل بصمت، وتُظهر تفوقًا أخلاقيًا ومهنيًا على مؤسسات النظام القديم. وعندما تحين الفرصة، تتحرك الشبكة كلها دفعة واحدة، تتجاوز الديمقراطية التقليدية، وتؤسس نظامًا مركزيًا مطلقًا، تديره يد واحدة، كما يدير مدير تنفيذي شركة خاصة.
في هذا النظام الجديد، يتحول الرئيس المنتخب ديمقراطيًا إلى مجرد واجهة براقة. أما الحكم الفعلي، فينتقل إلى مدير تنفيذي (CEO) يتمتع بسلطات مطلقة: يدير البلاد بعقلية الشركة، يتخذ قراراته وفق معايير الكفاءة والربحية، لا بناءً على التصويت الشعبي أو الجدل البرلماني، ودون اعتبار لمؤسسات دولية كالأمم المتحدة أو العدل الدولية، كل هذه المؤسسات يجب تحطيمها مثلما يحطم ترامب الآن المؤسسات الوطنية الأميركية.
هذا النظام البديل — الذي يشبهه باليرقة في طور التكوين— يجب أن يتحلى بثلاث صفات أساسية: الوحدة، التفوق، والطاقة.
الوحدة تعني أن الشبكة الجديدة يجب أن تكون متماسكة أيديولوجيًا، موحدة الرؤية والهدف، بعيدة عن التعددية أو الجدل الداخلي الذي يشل الحركات السياسية التقليدية. يارفين يرى أن الانقسامات الفكرية كانت دائمًا السلاح الأنجع بيد الديمقراطية لإضعاف خصومها، ولهذا يجب أن تقوم الشبكة الجديدة على طاعة شبه عمياء لمركزها القيادي.
التفوق هو الشرط الثاني. لا يكفي أن توجد هذه الشبكة؛ يجب أن تثبت أنها أكثر كفاءة ومهارة من المؤسسات القديمة. لذا، فهي مطالبة بالسيطرة التدريجية على الميادين الحيوية في المجتمع: الإعلام، الجامعات، القضاء. سيطرتها ليست عن طريق إعلان الحرب الصريحة، بل عبر الأداء الأفضل، وبناء مؤسسات أكثر مهنية، أكثر جدية، وأكثر قدرة على إدارة الأزمات. الهدف هنا هو أن يرى المجتمع تدريجيًا أن الشبكة الجديدة أكثر أهلية للحكم من النظام الديمقراطي المتهالك.
الطاقة هي الشرط الثالث. يجب أن تكون الشبكة البديلة مشحونة بالزخم الثوري، جاهزة للتحرك السريع عند أول فرصة. أي تلكؤ أو انتظار طويل قد يسمح للنظام القديم بالتماسك من جديد. وبالتالي يجب الحفاظ على الاحتقان الجماهيري، عبر التلاعب بالألغوريثم، وتغييب الحقائق، لكي يكون الفرد طاقة جاهزة للشحن الانفعالي واستخدامه في أي قضية ولأي هدف، من الحرب ضد التطعيمات الصحية، حتى الحروب ضد الجندر.
وعندما تحين اللحظة، سواء بسبب أزمة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية— تنقض الشبكة دفعة واحدة على السلطة. في تلك اللحظة، يتم التعامل مع مؤسسات الدولة القديمة كأنها أنقاض متفحمة: يتم تجاهلها أو تفكيكها بلا رحمة.
يارفين لا يخجل من القول بأن النظام الجديد يجب أن يكون مستعدًا لاستخدام ما يسميه بـ«الخيار النووي»— أي تعبئة الشارع بشكل عنيف للانقضاض على النظام الديمقراطي التقليدي، إذا حاولت مؤسساته الشرعية منعه من ممارسة سلطته المطلقة. بمعنى آخر: انقلاب ناعم إذا استطاعوا، وانقلاب خشن إذا اضطروا.
في نظر يارفين، الديمقراطية لم تكن سوى كذبة أنيقة لإخفاء فوضى الحكم الجماعي، والوقت قد حان لاستبدالها بحكم أوليغاركي تكنولوجي متسلح بالذكاء الصناعي والرقابة الرقمية.
لا وطنيات ولا حدود.
بل شركات، عملات رقمية، مدن خاصة تلمع كالسراب في الصحراء، ووعود براقة عن «مستقبل ذكي ومستدام».
أن تكون مجرد زائر في وطنك.
مستخدم في دولة تحكمها شروط الاستخدام.
6 - الفاشية الجديدة في شبه الجزيرة العربية
لا تعمل هذه الشبكة بمعزل عن السياسة التقليدية. لقاءات وصفقات تُعقد مع قادة إسرائيل والإمارات، فيما تستضيف الرياض اجتماعات مطولة بين ممثلي الأوليغارشية الروسية ونظرائهم من الأوليغارشية الأميركية، في محاولة لتجاوز الفتنة التي أشعلها بايدن، والتي تُسمى حرب أوكرانيا.
في شبه الجزيرة العربية، تتلاقى مصالح رأس المال التكنولوجي الجديد مع الطموحات السياسية لدول تسعى إلى تجاوز حدود الدولة القومية الكلاسيكية.
في سلسلة مقالاته عن الصهيو-إماراتية، أوضح محمد نعيم طبيعة العلاقة بين نموذج المدن/الدول الناجحة كدبي، والتي تعمل بدون إطار سياسي حيث المواطنين مجرد مقيمين، والفكرة الصهيونية وطبيعة مشروع تلك الجبهة لتغيير شكل المنطقة. وهو يرى أنه مشروع مرتبط بتوسع قاعدة الاستعمار الأميركي. لكن أعتقد أن ما يحدث أكبر من ذلك. فأميركا نفسها تتحلل وتتغير، ونخبتها الرأسمالية تعيد خلق أميركا والعالم في شكل جديد. والعرض هنا ليس عرض تبعية، بل ترى النخبة المالكة/الحاكمة في الخليج أن هذه فرصتها للقفز إلى المستقبل والتحول من موقع التابع إلى كرسي السلطنة والريادة.
ترى النخبة المالكة/الحاكمة في الخليج أن هذه فرصتها للقفز إلى المستقبل والتحول من موقع التابع إلى كرسي السلطنة والريادة.إنها القفزة التي تحلم بها تلك السلالة الحاكمة الجديدة من ملوك لدول برعايا والتزامات وواجبات، إلى ممول وشريك لحكام الأرض، والمريخ في المستقبل. إنه حلم التحقق والنجاح الفردي والعائلي، وهم مستعدون وعازمون على هذا الاختيار، حتى لو كان الثمن لا تفكيك الدول العربية وحسب، بل حتى الهويات الجمعية لتلك الشعوب.
في هذه الأثناء، فإنّ نماذج النجاح في المنطقة أصبحت تأتي من مدن منزوعة السياسة، تدار باستخدام التكنولوجيا دون أي قوانين أو قواعد خصوصية تحمي المواطنين. ومع ذلك، أصبحت تلك هي المدن التي يحلم بها المواطن ويتمنى تحويل دولته إليها، ولا أدلّ على ذلك من مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، المشروع الذي جرى تسويقه كمحاولة لبناء دبي مصرية.
يتحلل معنى الهوية الوطنية والدينية، ويصبح الفرد أكثر تقبلاً لهذا الواقع الجديد وتطلعاً لأن يحصل يوماً ما على الإقامة الذهبية.
لذا، فإنّ دبي والمدن الخليجية لا يُنظر لها بوصفها مستعمرات، بل بصفتها نموذجاً ناجحاً ترى فيه النخبة الرأسمالية العالمية بذرة لخلق العالم الجديد.
7 - تحرير اللغة للتحرّر من الألغوريثم
اللغة الآن هي السلاح الأول والأخير، فهي التي تُخفي وراء الكلمات الجميلة مشروعات قمعية لا تراها العين. كلمة مثل «مدينة ذكية»، تبدو برّاقة، ولكن ماذا تعني؟ تعني ببساطة أنك ستكون محكومًا بقوانين رقمية لا يمكنك التفاوض معها أو الاحتجاج عليها. وكلمة مثل «شبكة مدن» أو «دولة شبكية» تعني أن الإنسان يصبح مجرد كود، رقمًا في منظومة تستطيع التخلص منه بسهولة، دون ضجيج، ودون محاكمة.
يجب أن ينتقل خطاب المقاومة من رد الفعل القائم على قواعد العالم القديم للدول القومية، إلي تحرير لغة المستقبل الذي يسعون إلى سجنه في قواعد البيانات، هذه ليست «ابتكارات»، بل قلاع مسوّرة للنخبة.
هذه ليست «مدناً ذكية»، بل سجون مفتوحة تحت إدارة خوارزميات. علينا أن نتعلم أن نشكك في اللغة.
كل كلمة نكررها دون تفكير، رصاصة تطلق على أنفسنا.
الخطوة الثانية هي الأصعب، فكيف نحرر أنفسنا من أسر الألغوريثم الفاشي وشركاته التي حولتنا إلى عبيد في إقطاعياتهم التكنولوجية. الشبكات الاجتماعية مثل فيسبوك وتويتر وغيرها، تمتلك تاريخ المستخدم، وطالما لا يمتلك المستخدم بياناته وتاريخه الشخصي، فسيظل يعود إلى الشبكة.
هم كذلك أصبحوا يملكون الأثير الذي اعتدنا أن نلتقي فيه، يكتمون أصواتنا ويوقفون حساباتنا، ويتلاعبون بمن نرى أو نري وبأيّ صوت يصلنا وبمن يمكن أن يصلها صوتنا. التحدي أن نثير الاضطراب في هذه الشبكة، أن نمارس الفوضى والإرباك كمن يشفّر لغته للتحايل على الالغوريثم، لكن على أن يشمل هذا كل ممارسات الانترنت والواقع.
لا يوجد دليل شامل للنجاة، فهذه مهمة جماعية، لكن حتى لو أغلقت بوابات المدينة يمكن أن نحاول بالصراخ، بالحب غير المرخص، بالفوضى الصغيرة التي لا تجدها كاميرات المراقبة مثيرةً للاهتمام.
الفاشية تحبّ السرد البسيط: نظام. أمن. أعداء.
لكن الحياة الحقيقية أكثر فوضوية. نحتاج إلى روايات وسرديات تعيدنا للمدينة، للحب، للخسارة، للتجربة الإنسانية الكاملة.
السياسة مملّة؟ نعم.
لكنها آخر سلاح نملكه قبل أن نتحول إلى منتجات على أرفف المستقبل.
الديمقراطية قبيحة؟ طبعًا.
لكن حتى أسوأ برلمان منتخب، أفضل من أجمل خوارزمية تحكمك في صمت.